10 - 05 - 2025

عاصفة بوح| جمال عبدالناصر

عاصفة بوح| جمال عبدالناصر

حكمنا على أي رئيس مر على بر مصر لا بد أن يكون وفق معايير واضحة ومحددة.. لمن من الطبقات الاجتماعية ينحاز سياسيا واقتصاديا، المبادىء الذى ينادى بها وتلك التى يطبقها فعليا، الشعارات التى يرفعها وتلك التى نرى آثارها على أرض الواقع، حياته التى يعيشها وتلك التى يجبرنا على عيشها، ذكاؤه الذي يوظفه لتثبيت حكمه وخبرته وحنكته ودهائه الذي يرفع من شأننا ويضعنا في مصاف الدول المتميزة باحترام شعبها وتحقيق رفاهية جديرة بها إنسانيته وحقوقه!

تلك هي معاييرى فى الحكم على عبد الناصر وغيره.. لا مجال هنا للحب الرئاسى الذى لا يغلبه غلاب،  فلا منطق يفسر عدالة لا يطبقها أي من الرؤساء ولا إنجازات تشفع لهم.. ذلك عشق مراهقين، نأبى ان يتحكم بنا فى تقييمنا للحكام سواء فى حضورهم أو بعد غيابهم! 

إذن عندما أقول أن لعبد الناصر إنجازات كبيرة وأخطاء كبرى.. فأنا صادقة مع نفسى أمامكم وعندما أقول أن عبد الناصر ربما كان الوحيد الذى انحاز صراحة ومباشرة وفعلا للطبقات الفقيرة حتى الآن على الأقل فأنا لا أنحاز انحياز أعمى كمريديه.. لأن انحيازه للفقراء كان واضحا على أرض الواقع، ترجمته قوانين و دعم وصون لكرامتهم الاقتصادية والاجتماعية، بعيدا طبعا عن السياسة و المعارضة الذى كان يرى فيها، ربما لإخلاصه، خيانة للثورة التى قام بها لأجل الفقراء. 

 لذلك أجدنى أضحك بؤسا عندما أسمع هجوم أحفاد من كان عبد الناصر سببا فى خروجهم  من سجنالفقر والاستعباد، بإتاحة الفرصة لآبائهم أن يرتقوا اجتماعيا بمجهودهم وعلمهم وأن ينالوا حقوقهم، ربما  تفسير ذلك هو تنكرهم لماضيهم البسيط بعدما أصبحوا من القطط السمان فى عهود لاحقة عليه، فينكرون حق البسطاء فى قوانين ترسي مبادىء العدالة وتذيب الفوارق بين الطبقات والتى عادت بشكل أشد وأكثر تأجيجا للصراعات الاجتماعية.. بسبب أشد الأنظمة انحيازا للأغنياء بدءا من السادات حتى لاحقيه! 

 يكفي عبد الناصر شرفا أنه فتح باب الأمل لملايين الناس، يكفيه شرفا أنه الوحيد الذى عاقب من استحل دماء المصريين عقودا طويلة، يكفيه شرفا أنه أوجد نظاما تعليميا مجانيا أخرج مئات العلماء والنابغين والمتفوقين دون أن يتخرجوا من مدارس عالمية احتقرت اللغة العربية وأطاحت بالتاريخ المصرى لصالح الدول التى استعمرتنا طويلا وقضت على الانتماء الوطنى و شككت فى كل انتصارتنا وحميتنا الوطنية، وجعلتنا نتخلى عن عروبتنا التى كان يمكن ألا يغلبها غلاب، حتى جاءت أنظمة الفرقة والاعتراف بأن 99% من أوراق اللعبة بيد أمريكا، ففقدنا هيبتنا بين الأمم التى تكالبت على ناصر، لأنه مثل لها تهديدا حين طالب بوحدة عربية ما كانت تسمح بها مصالحها الاستعمارية، وها نحن نرى مصير الدول العربية بعدما ضاع حلم ناصر فى وطن عربى واحد لا يغلبه غلاب!

  

بعد نهاية عهده بسنوات طوال وعجاف، لم أتصور أن ياتى يوم، بعد ستين عام من ثورة انحازت للفقراء الذين لم يثوروا لأسباب لا تخفى على أحد وأناب ناصر نفسه عنهم، أن أسمع أنه لا يجوز لابن الفقير أن يتقدم لوظائف معينة، لأنه غير لائق اجتماعيا، فينتحر يأسا من العدالة.. فلا تتعجب إن رايت صور ناصر ترتفع عاليا في كل انتفاضة يقوم بها الشعب المصرى حتى ثورة يناير.. وأناس صارخين: ناصر ناصر، ومذكرين حكامهم بالعدالة الاجتماعية التى مرت كالطيف النبيل عليهم فى عهده واختفت بعده رغم كل التشكيك فى إنجازات الرجل، خاصة انحيازه للطبقات الأقل حظا!

أقول لو كان هذا هو إنجاز ناصر الوحيد، فهو يكفيه شرفا، وعلى الآتين من بعده أن يكملوا مسيرة العدالة  إن أرادوا وصدقوا النية! 

أتصور أيضا أن إحدى معجزات ناصر، أنه طبق شعار "نعم نستطيع" و"صنع فى مصر" وهما كفيلان أن يجعلاه يذكر بحب، فقد كانت فترته استثناء من فترات طويلةبعده لانفتاح السداح مداح أو عصر الديون  الرهيبة.. أو فترة البيات الشتوى التي حدثت في عصر غير المأسوف على عزله مبارك!

ذلك لا يعنى أننى لا أرى عيوب عصر ناصر التى أدت إلى هزيمتنا  فى 67، وهى هزيمة تليق بمنظومة الصوت الواحد والقهر والخوف من زوار الفجر وتعذيب المعارضين، وأرض الخوف التى جعلت الأزواج والأهالى يبلغون عن بعضهم البعض.. كما ترون لا أنكر خطاياه أو جرائمه فى هذا المجال، فلو كان استمع إلى صوت غير صوت رفاقه ومؤيديه، لربما تنبه إلى فشل عامر فى قيادة وتأهيل القوات المسلحة، لو كان فتح المجال العام ولم يسيطر على إعلامه - الذى يحسده الآخرون عليه - لربما تنبه إلى مواطن الخلل فى منظومة الثورة التى انحرفت عن أهدافها، لو ابتعد قليلا عن أهل الثقة لوجد فى أهل الخبرة ما تحتاجه مصر للحفاظ على إنجازات الثورة، فلا يأتى الرئيس التالى له ويسهل عليه القفز على كل مكاسب الفقراء بالسهولة التى تمت، لو آمن بالديموقراطية والانتقال السلمى للسلطة وبتحديد مدتها ما حكمنا الفشلة لثلاثين عاما، بما ترتب عليها من مآسى مستمرة حتى اليوم!

 لم يترك ناصر حبيب الملايين من الفقراء الذين تنفسوا الصعداء فى عهده وحده، منظومة قوية تحمى إنجازاته أو إنجازات الثورة، بل ارتبطت به وحده، هو.. المستبد العادل كما لقبه حواريوه ومريدوه وعشاقه، مع أن الاستبداد لا يستقيم أبدا مع العدل.. فرحل هو وحافظ من بعده على استبداده دون عدله الاجتماعى!

سلاما على من أحب فقراء مصر.. وحسابا من الله والتاريخ لأخطائه الإنسانية والسياسة، ومن كان بلا خطيئة فليرمه بحجر! 
-------------------------
بقلم: وفاء الشيشيني

 


   

مقالات اخرى للكاتب

عاصفة بوح | علمتني غزة